الوعي والتعبير الجماليّ لدى الشعب الفلسطينيّ | أرشيف

الفنّان الفلسطينيّ مصطفى الحلّاج (1938 - 2002)

 

المصدر: «مجلّة المعرفة».

الكاتب (ة): مصطفى الحلّاج. 

زمن النشر: 1 أيّار (مايو) 1975. 

 


 

يقولون: العيش على جبل عال يريني الناس صغارًا، ولكنّهم نسوا أنّه يوجد هناك البرد، الوحدة والفراغ. حيثُ تتضخّم الأنا، وينمو الحسّ الصوفيّ والعدم. ولكن في وسط الازدحام، ترى الناس كما هم، والاحتكاك بهم يولّد الدفء الإنسانيّ والتفاعل يبني الفرد كما ينبي حركة المجتمع.

عندما نتكلّم عن الوعي والتعبير الجماليّ لدى الشعب الفلسطينيّ، فإنّ هذا الكلام ليس بعيدًا عن وعينا أو إدراكنا، لأنّ الوعي والتعبير الجماليّ هما واحد تقريبًا لدى الأمّة العربيّة ككل. وهما متشابهان تشابهًا قريبًا أو بعيدًا مع المناطق المجاورة لهذه الأمّة. ولن يكون حديثي استنتاجًا مجرّدًا فقط، بل سأسرد كلّ ما حدث وعشته، وشاهدته، وكلّ ما لمسته من أشياء، من أجل تجسيم الفكرة الّتي أرغب في طرحها.

كنت في عام 1964 في الأقصر جنوب مصر، متفرّغًا لدراسات نظريّة وعمليّة في الفنّ، وذلك بعد أن تخرّجت من «كلّيّة الفنون الجميلة». وكانت الدراسات الفرعونيّة قد استهوتني بجميع ميادينها؛ فنًّا، أدبًا، تاريخًا، واقتصادًا. فغصت في هذا الجوّ، حيث أنّ كلّ شيء من مناخ، طبيعة، آثار وكتب كان قد سحرني وامتصّني، فأصبحت كالنسغ الّذي يهبط من الزهرة إلى جذور الشجرة، باحثًا عن العمق الحسّيّ والوجدانيّ لهذه الحضارة.

وعصر ذات يوم، كنت جالسًا عند تمثاليّ «عمنون»، أقرأ كتابًا متخصّصًا في الفرعونيّات، جاء صديق يحمل مذياعًا يبثّ أغانٍ فلسطينيّة من إذاعة العدوّ، وعندما سمعتها حصلت لي عمليّة بتر، بمعنى أنّها نقلتني من كلّ هذا الجوّ الّذي حاول امتصاصي بإرادتي، وكأنّه ذلك البتر، كفقدان ذاكرة لحاضر، وانبعاث الماضي بضراوة، حيث نقلني إلى شجرة كنّا نلعب ونحن صغارًا تحت أغصانها في قريتنا سَلَمة في فلسطين. فأحسست بأنّ اللحن والكلمات وصوت المغنّي، كانت تصنع حبالًا من المطّاط وتوصلها بين قلبي وجذور تلك الشجرة الّتي كنّا نلعب تحتها ووُلِدَ لديّ حنين ورغبة بأن أكون هناك.

ثمّة سؤال؛ ما الّذي وَلّد لديّ هذا الإحساس وهذه الرغبة وربّاهما؟ طبعًا الجوّ التراثيّ والوعي الجماليّ اللّذين ولدتُ فيهما في سلمة، إلى جانب عوامل التكوين الأخرى. بعد أن عدت إلى الجوّ الفرعونيّ، وأحدثت مقارنة بين كيف كنت أغوص في الفرعونيّات بإرادتي، وكيف أنّ لحنًا بسيطًا شدّني إلى هناك دون إرادة، تولّدت لديّ رغبة في محادثة صديق لي في القاهرة، هو الشاعر الشعبيّ عبد الرحمن الأبنودي، فكتبت إليه، وكان ممّا قلته له في خطابي: "عندما تكتب الأغنية، اكتب من أعماقك، واجعل مداد القلم عصارة الجذور، أي عندما تغنّيّ، تولد علاقة حبّ بين الناس في ما بينهم، وبين الناس والأرض والأحجار والأنهار والجبال والأشجار، عندما يولد هذا الحبّ، تزداد قدرتهم على الدفاع عمّا يحبّون، وأنت لا تحتاج من أجل التعبير عن الآخرين، إلّا أن تعبّر عن نفسك". لأنّ الفنّان عندما يكون بين شعبه وطبقته تكون مشاعره مشاعرهم وأفكاره أفكارهم، لأنّه خليّة حلمهم.

 

الوعي الجماليّ بوصفهِ مكوّنًا جذريًّا

 إذ أنّ الوعي الجماليّ يمتكله أيّ إنسان، وخارج نطاق العمل أو داخله، يتولّد هذا الوعي الجماليّ، سواءً في الأغنية أو في اللحن، أو في أدوات العمل أو أدوات البيت، يتولّد في كلّ شيء وخاصّة في الفنون الكبيرة من فنون تشكيليّة، مسرح، سينما، موسيقى وآداب. كلّ هذه الفروع تعبّر عن شيء واحد، هو العلاقة الجماليّة لدى هذا الشعب. وهذه العلاقة متطوّرة ومتغيّرة، بتطوّر وتغيّر وسائل وقوى وعلاقات الإنتاج، وكذلك بتأثير الظروف الطارئة كالكوارث الطبيعيّة، الأوبئة، الغزوات، والتراث الفنّيّ والأدبيّ لدى الشعوب دليل قاطع على ذلك.

إنّي أذكر أثناء العدوان الثلاثيّ على مصر في عام 1956، أنّ جوّ الحرب قد لوّن جميع الأنشطة الاجتماعيّة من قمّة المجتمع حتّى أسفل قاعدته. لقد لمست ذلك في وسائل التعبير بشكل خاصّ، كالنشيد الوطنيّ واللوحة الفنّيّة المطبوعة والمنشورة؛ فما بالك بشعب يعيش على أرض في أمان كبقيّة الشعوب، بل شارك في صنع الحضارة وأعطى العالم الكثير. وفجأة، يكون غريبًا في وطنه، أو في مخيّم، أو في معسكر ذي سور، أو ضاربًا في العالم العربيّ يبحث عن عمل. حيث أنّ لقمة العيش تجعله يجتاز الفيافي على رجليه، كما صوّرها غسّان كنفاني في روايته «رجال في الشمس».

كان هذا الشعب وهو في وطنه ينتج كلّ شيء، وكان وعيه الجماليّ وقوّة التعبير لديه يظهران في جميع أنواع الفنون، وكان هذا الوعي ضاربًا جذوره في عمق التاريخ؛ فمثلًا كان كامنًا في العمارة، الخزف، الزجاج، زخرفة الملابس، وفي كلّ الأدوات الأخرى الّتي تستعمل. كانت تلك المنتوجات تعني الحياة. وبعد عام 1948، انفجر كقوّة تعبير تستلهم المناهج الفنّيّة المعاصرة في العالم العربيّ والغرب، حيث أنّ التحدّيات تغيّرت، وبتغيّرها لوّنت الشعر الّذي يواكب الشعر العربيّ، كما نلمسه في الأهازيج والموسيقى وغيرها. بمعنى أنّ هذه الفنون كانت موجودة، وإنّما اختلفت وظيفتها فحسب، فقد حصلت عمليّة تنويع في وسائل التعبير سواءً داخل الأرض المحتلّة أم خارجها.

صحيح أنّ القضيّة الفلسطينيّة قد لوّنت جميع الأنشطة لدى الأمّة العربيّة، لأنّها في الأساس قضيّة عربيّة، ولكنّ الفلسطينيّ كمطرقة وسندان، يخلق وضعه خصوصيّة ذات ملامح حادّة، وهذه الخصوصيّة تأخذ ملامح خصوصيّة أيّ بلد يختلف عن بلد آخر في قطر عربيّ واحد، من حيث اللهجة وتلويناتها، مثل الخلاف بين الحلبيّ والدمشقيّ، الموصليّ والبصريّ، الصعيديّ والقاهريّ، إلخ.

عندما نعود إلى الإنتاج ما بعد عام 1948، نجد الأغاني والأهازيج في الأرض المحتلّة، ينفجر فيها الحنين الغائب، ينفجر فيها حزن وتحريض في الوقت نفسه. ونجد الأدب يرتبط بالمعاناة اليوميّة الّتي بدأت تنمو، ووصلت قمّتها عند الشعراء في الداحل مثل محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زيّاد. وفي الخارج كان الصراخ التعبيريّ واستنهاض الأمّة العربيّة كامنًا ليس في حركة الفلسطينيّ الأدبيّة وحسب، بل وفي حركته السياسيّة أيضًا. ومن واكب الحركة الأدبيّة والفنّيّة لدى الشعب الفلسطينيّ داخل وخارج الأرض المحتلّة، يجد اللهجة الرؤيويّة الفلسطينيّة ذات العمق العربيّ التاريخيّ، والمأساويّة الخاصّة لدى هذا الشعب في حركته الدائمة، تقع ما بين الإنتاج المأساويّ، ووصف وتحليل الواقع، والتحريض. وذلك بمواكبة الحركة السياسيّة الفلسطينيّة والعربيّة. ثمّ نجد ذلك كلّه قد تحوّل إلى آلاف من المطارق جمعها أوّل رصاصة انطلقت من الثورة الفلسطينيّة المسلّحة، فعُرِفَ شعر المقاومة، القصّة الفلسطينيّة، الرواية الفلسطينيّة، المسرح الفلسطينيّ، السينما الفلسطينيّة واللوحة الفلسطينيّة بالطبع. إنّ كلّ هذه المجالات لم تخلقها أوّل رصاصة، لأنّ الفنان لا يُخلَقُ في لحظة، ولكنّها جمّعتها.

 

التنظيم الثوريّ للتعبير الجماليّ

عندما اغتصبت الصهيونيّة العالميّة، بمساعدة الإمبرياليّة والاستعمار فلسطين عام 1948، بدأت بطمس الحقوق المشروعة والملامح الخاصّة لعروبة فلسطين؛ فسرقت العلم وغيّرته، سرقت الاسم وغيّرته، سرقت مكاننا في «الأمم المتّحدة»، زيّفت الخرائط والموسوعات والمعاجم، سرقت التراث الشعبيّ الفلسطينيّ وعرضته كنتاج إسرائيليّ، ولكنّها لم تستطع سرقة الوعي الفلسطينيّ الحيّ، الّذي بقي يُنتِجُ في الشعر، الأدب والفنون وثيقةً تاريخيّة نابعة من هذه الأرض. وأذكر مقالًا لكاتب فرنسيّ حضر مؤتمرًا لمناقشة الفنون التشكيليّة في إسرائيل، حيث قال: "لكي تُحدِثوا حركة فنّيّة إسرائيليّة الطابع، لا بدّ من نسف المثاليّة العربيّة".

ذلك أنّ تركيب المجتمع الإسرائيليّ هو خليط من ثقافات متغايرة ومتنوّعة ذات ملامح تحدّدها الجهة القادمة منها هذه الثقافات. وفي هذا تثبيت للهويّة الفلسطينيّة والخاصّيّة الفلسطينيّة في الفترة الّتي لم تظهر فيها السياسة الفلسطينيّة والصراع الفلسطينيّ على السطح، وبالتالي لم تؤثّر بعد في المجالين العربيّ والدوليّ. ولكن، إذا تتبّعنا الأنشطة الفلسطينيّة في الساحة العربيّة والدوليّة، لوجدنا أنّها كانت تبحث في خضمّ هذا الصراع المسلّح الّذي انفجر ضدّ العدوّ الصهيونيّ عام 1965، ما كان إلّا بداية لتجميع كلّ الطاقات الفلسطينيّة وتنظيمها في مؤسّسات منها «مركز الأبحاث» في مجال الفكر السياسيّ، التاريخيّ والاجتماعيّ، و«مركز التخطيط»، و«دار الفنّ العربيّ»، الّتي هي، حسب تقديري، من أفضل المؤسّسات الّتي تبني الطفل في العالم العربيّ لاستفادتها من جميع الخبرات المطروحة في هذا المجال.

وقد أعطت الثورة المسلّحة عندما قامت مجهودًا خاصًّا في تجميع وعرض الإنتاج الشعبيّ والأزياء الشعبيّة، وأحدثت أيضًا مؤسّسات تحافظ على هذا التراث، وتنتجه إلى جانب قيامها بحلّ مشاكل اقتصاديّة لبعض الأسر والأفراد. وقد ساهمت الاتّحادات النسائيّة و«مؤسّسة صامد» في ذلك أيضًا. أي أنّ الوعي والتعبير الجماليّ انفجرا كقوّة في معركة الشرعيّة واللا شرعيّة، النفي والبقاء.

ثمّ أصبح ثمّة مسرح فلسطينيّ، وسينما فلسطينيّة وُلِدَت على يد مصطفى أبو علي بمنهج ثوريّ بحت. وقد بدأ بالملصق، الرسومات، الصورة والتمثيليّة البسيطة معتنقًا مبدأ أنّ من يريد أن يقاتل يبدأ بأظافره، وهو لم يأتِ ليُسلّينا، وإنّما ليعرّفنا حقائق وفي الوقت نفسه ليحرّضنا.

بعد ذلك، أقيم «اتّحاد الأدباء والفنّانين الفلسطينيّين». وهكذا، فإنّ البندقيّة الّتي فجّرت كلّ النشاطات، لا تعمل لوحدها، إذ أنّ كلّ نشاط يعمل في ميدانه ليصبّ في بؤرة المعركة.

أمّا بالنسبة للأناشيد والأغنيات الفلسطينيّة، فقد تعرّفنا عليها لأوّل مرّة عندما بدأت الإذاعات الفلسطينيّة الّتي تمتلك إرادتها، بالبثّ. ونحن نعرف النشيد الوطنيّ والأغنية الشعبيّة اللّذين وُلِدَا في الساحة العربيّة على يد السيّد درويش تأليفًا وتلحينًا، واللّذين خنقهما الغناء البرجوازيّ المرتبط بالطرب وهزّ البطن؛ فانفجرا بقوّة في أناشيد العاصفة، مع عدم نسياننا أنّ ثمّة بعض الناس البسطاء يكمن فيهم مثل هذا، حيثُ أنّ السخرية وتجسيم الألم والتحريض والإشادة نجدها عند الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، وعند «الناس الغيوان» في المغرب.

تعتمد الأغاني الفلسطينيّة المذاعة على الإيقاع الشعبيّ المعروف في الموسيقى واللحن والكلمات الثوريّة ذات الطابع التحريضيّ، حيث انتشرت على لسان الأطفال وفي المظاهرات أينما يوجد تجمّع فلسطينيّ. وحتّى الأغنية الحزينة كأغنية «الشهيد»، فما من أحد سمعها إلّا ولان قلبه ولو كان ذلك القلب من حجر.

أمّا عن الشعر، فقد نما وتطوّر مع تطوّر المتغيّرات؛ فمثلًا جاء محمود درويش ومعه التحدّيات اليوميّة والأحلام لتلوّن قصيدته، كان هو محمود درويش في قصائده، وكان محمود درويش الوعي الفلسطينيّ عندما خرج من الأرض المحتلّة. كان أمينًا مع نفسه فتلوّنت القصيدة حسب التحدّيات الّتي واجهها، والموضوعات المتغيّرة الّتي كان يلمسها. وكذلك نرى الشاعر الشابّ أحمد دحبور، وقد كمن فيه المخيّم كعلاقات ومعاناة، فقد استخدم الأغنية الفلسطينيّة، المأثور الشعبيّ، الاقتباس والأمثال، استخدم كلّ شيء ليعبّر عن كلّ شيء كامن في هذا المخيّم، حتّى أنّه عندما يدخله الريح ويثير غبار الشوارع، يصبح هذا الريح وما أثاره من غبار كالفلسطينيّ في هذا المخيّم. زد على ذلك أنّ شعره قوّة تحريض أيضًا، وعندما قامت الثورة الفلسطينيّة أصبح جزءًا منها، فهو يعبّر عنها عندما يعبّر عن نفسه. لذلك كانت معاناته هي ما يعانيه الآخرون؛ فمثلًا نجد في ديوانه «طائر الوحدات»، أيلول عمّان رابضًا فيه بكلّ آلامه. والشيء الكبير عند هذا الشاعر، هو أنّه لا يتخيّل، وإن تخيّلَ، فإنّ ذلك يكون عن المستقبل الّذي يناضل من أجله.

نرى شاعرًا آخر هو خالد أبو خالد، المقاتل الشاعر، نسمعه صوتًا ليس له نظير في الشعر المطروح، من حيث الصياغة، الرمز والمعالجة، وكذلك من حيث المنبع الّذي يستقي منه الصورة، وطريقة مونتاج الصور في القصيدة الواحدة، بالإضافة إلى الصداميّة والتحريض لديه. وقد جاء كلّ ذلك من كونه مقاتلًا فعلًا وليس في مكتبه.

أمّا عن الرواية والقصّة فنجدهما مرتبطتين بالواقع والحياة، هذه السمة ابتدأت بملامح تسجيليّة عند غسّان كنفاني الّذي استطاع أن يرى، في فترته، أكثر من غيره، المتغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة داخل الأسرة الفلسطينيّة خارج الأرض المحتلّة، والعلاقات بين الفلسطينيّ، وبين البحث عن العمل. ولقد نضجت هذه التسجيليّة في رواية توفيق فيّاض «المجموعة 778»، ونرى كتّاب قصّة وروائيّين فلسطينيّين مثل رشاد أبو شاور، ويحيى يخلف، كانوا ولا يزالون وترًا حسّاسًا للصوت الفلسطينيّ في المخيّمات، العمل، الدراسة وفي القتال. إنّ ما يميّزهم هي التجربة الحياتيّة اليوميّة، وإن اختلفوا في طريقة المعالجة، وهناك غيرهم كثر لا مجال لذكرهم.

 

التحوّلات الثوريّة على الفنون التشكيليّة

بعد عام 1948 كانت أنواع الصور كلّها، من الصور الفوتوغرافيّة حتّى الصورة الصحافيّة والسينما، قد عرضت فلسطينيّ المخيّم، الجائع، الواقف على الطابور، لكي تستدرّ عطف المتبرّعين لـ «هيئة الغوث». حتّى الفنانين العرب الّذين رسموا الفلسطينيّ خيمة وسلكًا شائكًا، لم يخلوا من هذا الجهل أيضًا. على حين أنّ الأطفال، إلى جانب واجباتهم المدرسيّة، كانوا يرسمون على إسفلت غزّة ومخيّمات اللاجئين المخيّم والحلم. وقد نمت بعد ذلك هذه الإنتاجات الفنّيّة في المدارس، ولكنّها لم تُسجّل. غير أنّ مصلح كلّ هذه الحركة التشكيليّة كان إسماعيل شمّوط، الّذي برز من ضمن المجموعة، واستمرّ في الإنتاج، ونما بالتشجيع لدرجة أنّ كلّ ساكن في المخيّم وكلّ فلسطينيّ وجد مأساته مرسومة في لوحاته، حيث أنّ المأساة والحياة اليوميّة كانت موضوعه، وإن كانت الأدوات التشكيليّة لم تأخذ النكهة واللهجة المحلّيّة الفلسطينيّة. وكان ذلك أوّل ظهور لفن تشكيليّ برز على نطاق أوسع من نطاق غزّة. بدأت بعده في الخمسينات، أفواج من الشباب لدراسة الفنون في القاهرة وبغداد وخارج الوطن العربيّ. وأذكر، في «كلّيّة الفنون الجميلة»، أنّ القادمين من قطاع غزة كانوا يختلفون عن غيرهم من حيث نكهة اللون ولهجة التكوين. وأدركت أنّ الملامح الخاصّة للفلسطينيّ كانت تكمن في الموضوع قبل كلّ شيء.

لكنّ الرؤية التشكيليّة فهي وإن كانت ذات ملامح خاصّة – كملامح اللغة واللهجة بين مدينتين في قطر- فإنّها لم تتناس الخبرات المطروحة عربيًّا وعالميًّا. فلو تتبّعنا دور الفنون التشكيليّة في تاريخ الشعب الفلسطينيّ، نجده متماثلًا مع شعب المنطقة العربيّة ككلّ، وإن كان يتمتّع بخصائص خاصّة في الشكل؛ فالزخرف كان البطل الّذي يُغْني الحياة في العمارة وفي الفنون الطبيعيّة وفي زخرفة الملابس. ولكن بعد عام 1948، بدأ يلعب دورًا تعبيريًّا، نظرًا إلى المتغيّرات في خاصّيّة هذا الشعب الكامنة في تكوينه الجغرافيّ والتاريخيّ، وهذه المتغيّرات هي عمليّة الغزو والطرد، كما شرحنا سابقًأ، ممّا نمّى لدينا – نحن الفنّانين الفلسطينيّين – الرغبة في توضيح وتجسيم هذه الملامح الخاصّة لنقف في وجه من يريد طمس الحقوق المشروعة وتلك الملامح الخاصّة لعروبة فلسطين.

أعتقد أنّني لو تكلّمت عن تجربتي الخاصّة في هذا المجال، سيتطلّب ذلك وقتًا يتجاوز حدود هذا المقال. ولكنّني سأتحدّث عن تجربتنا الفلسطينيّة ككلّ. عندما تخرّجت وزملائي الفلسطينيّين من «كلّيّة الفنون الجميلة»، عرضت عليهم إقامة مرسم جماعيّ، تبدأ فيه الحركة الفنّيّة الفلسطينيّة بعمقها التاريخيّ، لأنّنا لسنا مجرّد فنّانين ننتج لوحات وكفى، بل نعيش قضيّة ولا بدّ أن نكون جزءًا منها. فاعتذر البعض نظرًا للظروف الصعبة والقاسية الّتي يعيشونها، إذ لا بدّ من البحث عن العمل من أجل الأسرة من والدة وأخوة. وفعلًا كانت ظروفهم صعبة كشفيق رضوان الّذي عمل ولا زال يعمل مدرّسًا في الكويت حيث الطبيعة القاسية والعمل الّذي يمتصّ الطاقة. ومع ذلك استمرّ في الإنتاج الفنّيّ دون أن يُعرَفَ عنه الكثير. وهكذا بقيت الحركة الفنّيّة التشكيليّة موزّعة تمتصّها المدارس والمؤسّسات المتنوّعة في العالم العربيّ إلى أن قامت الثورة الفلسطينيّة المسلّحة السياسيّة وجمّعت تلقائيًّا – كما رأينا سابقًا – الطاقات الفنّيّة ونظّمتها في مؤسّسات.

لماذا اغتالت الصهيونيّة غسّان كنفاني، كمال ناصر، وكمال عدوان، وحاولت اغتيال الدكتور أنيس صايغ وشفيق الحوت، واغتالت بعض شباب الثورة الفلسطينيّة في دول أوروبا مثل وائل زعيتر، ونسفت «مركز الأبحاث»، وعطّلت استمرار معرض الأطفال الفلسطينيّين الّذي أقامته الفنّانة منى سعودي في النرويج، بالإضافة إلى مضايقات كثيرة ترتبط بالمحاضرات والعروض الفنّيّة، ومحاولة تهويد أو أسرلة الرسّامين الفلسطينيّين في الأرض المحتلّة كعبد الله الفرّا؟

كلّ ذلك لإدراك إسرائيل أهمّيّة مهندسي الوعي الفلسطينيّ في جميع مجالاته، ومدى تأثيره إعلاميًّا بفرض شرعيّة هذا الشعب، لأنّ العمل الفكريّ والفنّيّ، أو الإنتاج الأيديولوجيّ بمفهومه العريض، هو كالإسمنت يربط الناس بعضهم ببعض، ويزيد من حجم طاقاتهم كالمارش العسكريّ الّذي ينظّم خطوات الجنود، أو كأيّ عمل مسرحيّ أو سينمائيّ يضع المتفرّجين والسامعين في جوّ واحد، فينمو الوعي الاجتماعيّ. فما بالك إذا كان هذا العمل محرّضًا؟

إنّ القضيّة الفلسطينيّة كموضوع لعمل الفنّان، أو الأديب، أو الشاعر، قد خلقت تيّارًا يوحّدهم في كلّ، وإن اختلفت أساليب المعالجة والمضمون النابع من مواقف الفنّان أو الأديب، غير أنّ الإنتاج الفنّيّ الّذي خُلِقَ على يد الفنّانين الفلسطينيّين يختلف عنه لدى بعض الفنّانين العرب الّذين يعالجون مواضيع مجرّدة ليس لحياتهم، أو حياة شعبهم، أيّ تدخّل فيها إلّا من حيث أنّها سلعة تنتج لهذا الشعب. في حين أنّ الموضوعات الّتي يطرحها الفنّان الفلسطينيّ ترتبط بحياته وحياة شعبه، سواءً في المخيّمات أو في المدن العربيّة. حتّى أنّنا نستطيع أن نلمس بوضوح بعض الرموز المتشابهة أو المتماثلة في الأدب الفلسطينيّ، الشعر الفلسطينيّ والفنّ الفلسطينيّ، ومنها؛ الشجرة، الجذور والخيول. ومن الجدير ذكره أنّ المناضل الفلسطينيّ نزيه أبو نضال، قام بمحاولة أرشيفيّة لمدى استخدام الكلمة الواحدة لدى الشعراء الّذي ارتبطوا بالثورة الفلسطينيّة، ومحاولته هذه تعتبر فريدة في الأدب العربيّ.

 

التجربّة الفنّيّة الفلسطينيّة بعد عام 1948

إليكم بعض الأمثلة الّتي توضّج التجربة الفنّيّة الفلسطينيّة، ولنبدأ بإسماعيل شمّوط لنجد أنّ المخيّم كان موضوع لوحاته، بغضّ النظر عن مقدرته على التعبير حسب المعايير الفنّيّة القديمة أو المعاصرة، وكذلك الفنّانة تمام الأكحل والفنّان الحفّار شفيق الرضوان، وإن كانت التعبيريّة لديه أعنف من غيره. ونجد الفنّان فاروق الهويدي رغم أنّه هاو، ويرسم تجريدًا غير هندسيّ ذو إيقاع موسيقيّ عنيف، يعود في آخر أعماله ليجسّم الزخرف الفلسطينيّ، وقد عبّرت جمانة الحسيني عن الرقّة، الأرستقراطيّة، الأنوثة، البياض البرّيّ والقرية. كما نجد التجريد يختلط مع الزخرف والفنّ الشعبيّ لدى ليلى الشوا، والبحث الفولكلوريّ شكلًا ومضمونًا نجده لدى عبد الرحمن المزيّن، والبدائيّة والحسّ الشعبيّ ومكتسبات الأكاديميّة والكلاسيكيّة من حيث المعالجة والموضوعات الفلّاحيّة والشعبيّة لدى الفنّان الشعبيّ العصاميّ إبراهيم غنّام. أمّا الفنّان المصوّر إبراهيم هزيمة فيعتبر من أكبر الملوّنين الفلسطينيّين حيث نجد صوت الشبابة، المجوز، الزخرفة الشعبيّة والوجه الفلسطينيّ يتكرّر في تكوين واحد هو البيت، المرأة، الشجرة والطفل، مع اختلاف طريقة المعالجة من لوحة إلى أخرى. وتعودة سيطرة هذا الموضوع على أعماله إلى وجوده وسكناه في أوروبا. وثمّة فنّانون كثيرون يعملون لا مجال لذكرهم.

أمّا عن تجربتنا حول إقامة المعارض، فقد انتهجنا منذ عام 1969 أسلوب الوحدة الإعلاميّة المتكاملة من حيث الثورة، ابتداءً بالخرائط، الصور الفوتوترغرافيّة، اللوحات التوضيحيّة، رسوم الأطفال والأعمال الفنّيّة المتنوّعة، وانتهاءً بالعمل الفنّيّ المتطوّر من حيث الموضوع والمعالجة، ولم ننسَ بثّ الموسيقى وأناشيد الثورة الفلسطينيّة في جوّ المعرض. بالإضافة إلى ما يكمّل ويخدم الإعلام الفلسطينيّ في هذه الفترة من أسطوانات، كتيّبات، بطاقات معايدة، طوابع بريديّة، تسجيلات على أشرطة، أعلام وميداليّات. وأذكر أنّه دار حوار حول وضع بعض الأعمال الفنّيّة المتطوّرة في المعرض الّذي أقيم في مخيّم الوحدات في عمّان، خوفًا من عدم وصولها إلى الجمهور، ولكنّها عُرِضَت رغم المعارضة. وكم كانت دهشتنا عظيمة عندما اكتشفنا أنّ العقل الشعبيّ كان أكثر تطوّرًا ممّا كنّا نعتقد. لماذا؟ لقد وجدت بعد دراسة قمت بها الملاحظات اليوميّة الّتي كنت أسجّلها حول ردّ فعل الجمهور تجاه الأعمال المعروضة، وجدت أنّ شروحات الناس بعضها لبعض حول اللوحات، منبثقة عن الخلفيّة الثقافيّة الشعبيّة، الثورة والحياة اليوميّة. وقد لاحظت ذلك لدى الفلسطينيّين بشكل خاصّ في كلّ المعارض الّتي أقيمت في العالم العربيّ.

إنّ من يرتبط بمعاناته الحياتيّة ويكون خليّة حيّة في جسد أمّة، لا بدّ أن يعبّر عنها بوعيه الخاصّ. وأتذكّر في هذا المجال ما قاله غوته: "إنّ إنتاجي هو إنتاج اجتماعيّ، ولكنّه مهر فقط باسم غوته". إذ لكي يكون الفرد جزءًا من أمّة، لا بدّ أن يكون وعيه الخاصّ نما بحيث يصبح وعيًا كلّيًّا، وذلك يأتي عن طريق امتصاص كلّ شيء، أكان تراثًا أو علاقات حياة يوميّة، بحيث أنّه عندما يريد التعبير عن نفسه يكون قد عبّر عن هذه الأمّة.

الفنّان حرّ لحظة التعبير، ولكنّه مسؤول لحظة الاتّصال.

أذكر عندما كنت في القاهرة والأقصر، كنت أرسم الألم، الهجرة، الطرد وحلم المستقبل. وعندما جئت إلى سوريّا عام 1966 وُلِدَ في حياتي أوّل إيقاع فلسطينيّ في العمل الفنّيّ. وفي عام 1969 حين كنت في عمّان والأغوار، اكتشفت الشكل الفلسطينيّ في اللهجة. أي عندما يرسم الفنّان وهو بعيد عن ميدان الحركة يكون متعاطفًا معها، ولكنّنا جزء من، ولسنا متعاطفين مع.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.